من الوصم إلى الرعاية.. كيف يمكن للمجتمع دعم متعاطي المخدرات؟

من الوصم إلى الرعاية.. كيف يمكن للمجتمع دعم متعاطي المخدرات؟

ضرورة تغيير النهج نحو سياسات حقوقية وإنسانية لمعالجة متعاطي المخدرات

ترتيل درويش: التوجه العقابي يزيد من وصم المتعاطين ويعمق معاناتهم

جمال فرويز: التمييز ضد متعاطي المخدرات يفاقم المشكلات النفسية والاجتماعية

 

في خضم المجتمع المعاصر، حيث نسعى جاهدين لتحقيق المساواة والعدالة للجميع، تظل ظلال التمييز تلوح في الأفق، خاصةً عندما يتعلق الأمر بمرضى اضطرابات تعاطي المخدرات. 

هؤلاء الأفراد، الذين يعانون من واحدة من أصعب التحديات الصحية والنفسية، يواجهون ممارسات تمييزية تعمق جروحهم وتزيد معاناتهم.

وقالت المقررة الأممية الخاصة في تقريرها الذي اطلعت "جسور بوست" على نسخة منه، والذي تمت مناقشته ضمن البند الثالث من جدول أعمال مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في دورته الـ56، إن الممارسات والمتطلبات التمييزية التي تحد من الرعاية الاجتماعية للأشخاص الذين ألفوا تعاطي المخدرات أو سبق لهم الإدانة بجريمة متعلقة بالمخدرات هي ممارسات ومتطلبات تديم عدم الاستقرار الاجتماعي والنتائج الصحية السيئة.

وتشير الدراسات الحديثة إلى أن التمييز ضد مرضى اضطرابات تعاطي المخدرات يشكل عقبة كبيرة أمام حصولهم على العلاج والدعم اللازمين. 

وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، يعاني نحو 35 مليون شخص حول العالم من اضطرابات تعاطي المخدرات، ومع ذلك فإن أقل من 20% منهم يتلقون العلاج المناسب. 

هذا النقص في العلاج يرجع جزئيًا إلى وصمة العار والتمييز المرتبطين بالإدمان، ما يؤدي إلى تردد المرضى في طلب المساعدة، وفي الولايات المتحدة، أظهرت إحصائيات من المعهد الوطني لتعاطي المخدرات أن هناك نحو 21 مليون أمريكي يعانون من اضطرابات تعاطي المخدرات، لكن 10% فقط منهم يتلقون العلاج، هذا التفاوت الصارخ يبرز حجم المشكلة ويشير إلى وجود حواجز اجتماعية ونفسية تعوق الوصول إلى الرعاية الصحية المناسبة. 

التمييز ضد هؤلاء المرضى ليس مقتصرًا على المجال الطبي فقط، بل يمتد إلى جوانب حياتهم اليومية، حيث تشير البيانات إلى أن مرضى اضطرابات تعاطي المخدرات يواجهون تمييزًا في سوق العمل أيضًا. 

ووجدت دراسة أجرتها جامعة جونز هوبكنز الأمريكية أن 64% من أرباب العمل يترددون في توظيف شخص يعاني من اضطراب تعاطي المخدرات، حتى لو كان الشخص قد تلقى العلاج وأصبح متعافيًا، هذا التمييز الوظيفي يعمق الفجوة الاقتصادية ويجعل من الصعب على المرضى إعادة بناء حياتهم كما أن التمييز في النظام القضائي يمثل جانبًا آخر من المشكلة. 

كما أشار تقرير من مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة إلى أن مرضى اضطرابات تعاطي المخدرات يواجهون عقوبات أشد عند محاكمتهم بجرائم تتعلق بالمخدرات مقارنة بغيرهم من الأفراد، وأن التمييز القضائي يسهم في زيادة نسبة العودة إلى الجريمة ويعوق جهود إعادة التأهيل والاندماج في المجتمع.

في القطاع الصحي، يواجه المرضى تمييزًا يمكن أن يكون مميتًا، وفقًا لمجلة "لانست" الطبية، يعاني مرضى اضطرابات تعاطي المخدرات من معدلات وفيات أعلى بنسبة 15% مقارنة بالمرضى الذين لا يعانون من هذه الاضطرابات، هذا الفرق الكبير في معدلات الوفيات يعكس نقص الرعاية الصحية المناسبة والتمييز الذي يواجهه هؤلاء المرضى في المستشفيات والعيادات.. ولا يمكن إغفال الأثر النفسي والاجتماعي للتمييز على مرضى اضطرابات تعاطي المخدرات؛ تشير الدراسات إلى أن وصمة العار المرتبطة بالإدمان تؤدي إلى تفاقم الاكتئاب والقلق، مما يزيد من خطر الانتكاس. 

ووجدت دراسة نُشرت في مجلة "جاما" للطب النفسي أن الأشخاص الذين يعانون من وصمة العار بسبب إدمانهم كانوا أكثر عرضة للانتكاس بنسبة 27% مقارنة بأولئك الذين لم يواجهوا المستوى نفسه من التمييز. 

ويرى محللون أنه لمواجهة هذه التحديات يجب على المجتمعات تبني سياسات شاملة تهدف إلى مكافحة التمييز وتعزيز التوعية حول اضطرابات تعاطي المخدرات، وتتطلب هذه الجهود التعاون بين الحكومات والمؤسسات الصحية ومنظمات المجتمع المدني، ويجب تطوير برامج تعليمية لتوعية الجمهور بطبيعة الإدمان كمرض يتطلب العلاج والرعاية، وليس حكماً أخلاقياً.

كذلك من الضروري أيضًا تعزيز التشريعات التي تحمي حقوق مرضى اضطرابات تعاطي المخدرات وتضمن حصولهم على العلاج المناسب دون تمييز، وتوفير دعم مالي وبرامج إعادة تأهيل شاملة للمساعدة في إعادة دمجهم في المجتمع.

نحو نهج إنساني بدلاً من قانوني

في تقريرها الأخير، شددت المقررة الأممية الخاصة تلالينغ موفوكينغ، على حق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية، على ضرورة تغيير النهج العالمي في التعامل مع تعاطي المخدرات واضطرابات تعاطي المخدرات. 

ودعت موفوكينغ، إلى الانتقال من الاعتماد على القوانين الجنائية إلى تبني نهج قائم على الرأفة وحقوق الإنسان والأدلة للحد من الضرر.

وأوضحت المقررة الخاصة أن الممارسات التمييزية التي تحد من وصول الأفراد الذين يعانون من اضطرابات تعاطي المخدرات إلى الرعاية الاجتماعية تسهم في تفاقم عدم الاستقرار الاجتماعي وسوء النتائج الصحية. 

وشددت على أهمية إشراك الأشخاص المتأثرين بتعاطي المخدرات، ولا سيما أولئك الذين هم غالبًا مهمشون ومجرمون، في تصميم السياسات والخدمات المتعلقة بالمخدرات، بما يتماشى مع مبادئ المساواة وعدم التمييز والشفافية والمشاركة. 

وأوصت بإلغاء تجريم تعاطي المخدرات وحيازتها للاستخدام الشخصي، والتحول إلى نهج تنظيمي يركز على حماية صحة الناس وحقوق الإنسان، ودعت الدول إلى تعديل أو إلغاء القوانين والسياسات التي تسهم في استمرار أنظمة القمع مثل العنصرية والاستعمار، والتعامل مع استراتيجيات الحد من الضرر القائمة على الأدلة كوسيلة لتحقيق الحقوق الصحية. 

وأكدت موفوكينغ أهمية ضمان عدم تأثير سياسات مكافحة المخدرات على وصول الأفراد إلى الأدوية الأساسية، مثل الأدوية اللازمة للرعاية التلطيفية وإدارة الألم. 

كما شددت على ضرورة تجنب سلوكيات قد تؤدي إلى اعتلال أو وفيات مرتبطة بتعاطي المخدرات، مثل تسويق الأدوية غير المأمونة أو تطبيق علاجات طبية قسرية. 

وأشار التقرير إلى أن تعاطي المخدرات واضطراباته يمكن أن يكونا سببًا للتمييز، بسبب الوصم والتهميش المستمرين الذي يعاني منهما الأفراد المصابون بهذه الاضطرابات. 

ولاحظت أن قوانين وسياسات المخدرات يمكن أن تؤدي إلى تمييز غير مباشر، حيث يتعرض الأفراد المتأثرون بطبقات متقاطعة من التمييز؛ ما يستدعي تحسين وضعهم لتحقيق المساواة الفعلية. 

في السياق ذاته، سلط التقرير الضوء على التحديات الخاصة التي تواجه النساء اللائي يتعاطين المخدرات، بما في ذلك مستويات أعلى من الوصم الاجتماعي والتمييز، حيث يتعرضن لمعدلات عنف أعلى تصل إلى 24 مرة مقارنة بالنساء اللائي لا يتعاطين المخدرات.

التمييز يفاقم الأزمة والرحمة هي الحل

وفي هذا الشأن، قالت الأكاديمية اللبنانية وخبيرة حقوق الإنسان، ترتيل درويش، إن التمييز ضد متعاطي المخدرات يعد انتهاكًا صارخًا لمبادئ حقوق الإنسان، لذا يجب أن نتناول هذه القضية من منظور الرحمة والعدالة والمساواة، بدلاً من التوجه العقابي الذي يعمق الوصم ويزيد من معاناة الأفراد المعنيين، مؤكدة أن مبادئ حقوق الإنسان الأساسية، مثل الحق في الصحة والحق في المساواة والحق في عدم التمييز، تقتضي أن نعيد النظر في سياساتنا تجاه تعاطي المخدرات، فالحق في الصحة يتطلب أن يحصل كل فرد على أعلى مستوى ممكن من الرعاية الصحية، وهذا يشمل المتعاطين للمخدرات. 

وتابعت ترتيل، في تصريحاتها لـ"جسور بوست"، عندما تُحرم هذه الفئة من الرعاية الصحية المناسبة بسبب السياسات التمييزية أو الوصم الاجتماعي، فإن ذلك يؤدي إلى تدهور صحتهم وزيادة تعرضهم للأمراض والإصابات، منوهة بأن النهج القائم على حقوق الإنسان يدعو إلى تقديم خدمات صحية شاملة للمتعاطين، بما في ذلك برامج الحد من الضرر والعلاج النفسي والدعم الاجتماعي.

وأوضحت ترتيل، أن الحق في المساواة وعدم التمييز ينص على أن جميع الأفراد يجب أن يُعاملوا بإنصاف واحترام، بغض النظر عن وضعهم الصحي أو الاجتماعي، والتمييز ضد متعاطي المخدرات ينتهك هذا المبدأ الجوهري، ويؤدي إلى تهميشهم واستبعادهم من المجتمع، لذا يجب علينا تعزيز سياسات تكافؤ الفرص وتقديم الدعم اللازم لهؤلاء الأفراد لتمكينهم من الاندماج في المجتمع بشكل فعال، إضافةً إلى ذلك، تتطلب مبادئ الشفافية والمشاركة والمساءلة إشراك المتعاطين أنفسهم في صياغة السياسات والبرامج التي تؤثر عليهم. 

وقالت، إن تجاهل أصواتهم وخبراتهم يؤدي إلى حلول غير فعّالة وتفتقر إلى الاستدامة، ولكن عندما يتم إشراك المتعاطين في عملية اتخاذ القرار، تصبح السياسات أكثر شمولاً وفاعلية، وتعكس احتياجاتهم الحقيقية، محذرة من أن النهج العقابي في التعامل مع تعاطي المخدرات يزيد من معاناة الأفراد دون تحقيق نتائج إيجابية على صعيد الصحة العامة أو السلامة الاجتماعية. 

ترتيل درويش

وأكدت أن تجريم تعاطي المخدرات وحيازتها للاستخدام الشخصي يفاقم من الوصم ويمنع الأفراد من طلب المساعدة اللازمة بدلاً من ذلك، ويجب على الدول تبني نهج قائم على الأدلة العلمية والحقوق الإنسانية، والذي يركز على الوقاية والعلاج والدعم الاجتماعي، بالإضافة إلى ذلك يجب ضمان الوصول إلى الأدوية الأساسية والخدمات الصحية الضرورية لجميع الأفراد، بمن فيهم المتعاطون للمخدرات، فسياسات مكافحة المخدرات التي تعرقل الوصول إلى هذه الخدمات تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان وتؤدي إلى تفاقم المشكلة. 

واختتمت: “التمييز ضد متعاطي المخدرات يعكس فشلاً في احترام حقوق الإنسان الأساسية ويجب علينا التحرك نحو سياسات تركز على الرأفة والدعم، وتضمن المساواة والعدالة للجميع. ومن خلال تبني نهج قائم على حقوق الإنسان يمكننا تحقيق تقدم حقيقي في مكافحة تعاطي المخدرات وتحسين صحة ورفاهية الأفراد والمجتمعات”.

تأثيرات نفسية واجتماعية عميقة

وبدوره، علق خبير علم النفس الدكتور جمال فرويز بقوله، إن التمييز ضد متعاطي المخدرات له تأثيرات نفسية واجتماعية عميقة على الأفراد المتأثرين به، مما يزيد من تعقيد مشكلاتهم ويقلل فرص تعافيهم، من منظور علم النفس، كما أن الوصم والتمييز المرتبطين بتعاطي المخدرات يؤديان إلى سلسلة من التأثيرات السلبية على الصحة النفسية والعاطفية للفرد، أحد أهم هذه التأثيرات هو تعزيز الشعور بالخزي والعار، فالأفراد الذين يتعرضون للتمييز بسبب تعاطيهم المخدرات غالباً ما يتبنّون هذه الأحكام السلبية عن أنفسهم، ما يؤدي إلى تدهور احترام الذات وزيادة الشعور بالعار والخزي. 

وأكد فرويز، أن هذه المشاعر يمكن أن تجعل الفرد أكثر عرضة للقلق والاكتئاب، ما يزيد من احتمالية الاستمرار في تعاطي المخدرات كوسيلة للهروب من الألم النفسي. 

وأضاف جمال فرويز في تصريحاته لـ"جسور بوست": التمييز والوصم الاجتماعي يعززان العزلة الاجتماعية، فالأفراد المتعاطون للمخدرات قد يجدون أنفسهم معزولين عن أسرهم وأصدقائهم ومجتمعهم، ما يؤدي إلى فقدان الدعم الاجتماعي الذي يُعد حيوياً للتعافي، والعزلة تزيد الشعور بالوحدة واليأس، وهما من العوامل الرئيسية التي تسهم في استمرار تعاطي المخدرات أو حتى تفاقمه، بالإضافة إلى ذلك التمييز يمكن أن يؤثر بشكل كبير على الوصول إلى الخدمات الصحية والدعم النفسي. 

وتابع: الذين يتعاطون المخدرات قد يتجنبون طلب المساعدة الطبية أو النفسية خوفاً من الأحكام والتمييز، هذا يؤدي إلى تدهور الحالة الصحية العامة وزيادة صعوبة التعافي، وبدون دعم مناسب سيجد هؤلاء الأفراد أنفسهم في حلقة مفرغة من التعاطي والانحدار الصحي، كما أن التجريم والسياسات العقابية تعمّق أيضاً مشاعر العزلة والعار، وبدلاً من تلقي الدعم والعلاج، سيواجه متعاطو المخدرات العقوبات القانونية والسجون، ما يزيد من تعقيد مشكلاتهم النفسية والاجتماعية.

وشدد على أن هذه السياسات لا تعالج الجذور النفسية والاجتماعية لتعاطي المخدرات، بل تزيد من وصم الأفراد وتعزز الدوائر السلبية، على المستوى الاجتماعي، مؤكدا أن التمييز ضد المتعاطين للمخدرات يعزز الصور النمطية السلبية ويُضعف التماسك الاجتماعي، عندما يُعامل الأفراد على أنهم مجرمون أو منحرفون بدلاً من أفراد يحتاجون إلى مساعدة، فإن المجتمع يفقد فرصاً كبيرة لتحسين الصحة العامة وتعزيز العدالة الاجتماعية، مبينا أن النهج القائم على الرأفة والدعم يمكن أن يسهم في تغيير هذه الديناميكيات، حيث يُنظر إلى المتعاطين على أنهم أشخاص يحتاجون إلى مساعدة وفهم بدلاً من العقوبة. 

جمال فرويز

واختتم خبير علم النفس قائلا: لمواجهة هذه التحديات، من الضروري تبني سياسات تعزز الصحة النفسية والدعم الاجتماعي بدلاً من العقوبات والتمييز بجانب توفير برامج علاجية شاملة، ودعم نفسي، وتعزيز الاندماج الاجتماعي، لمساعدة الأفراد على التعافي وبناء حياة أكثر صحة واستقراراً، وأيضا من خلال تغيير نظرتنا وتعاملنا مع المتعاطين يمكننا تقليل التأثيرات السلبية للتمييز وتحسين فرص التعافي والاندماج في المجتمع.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية